القدس
أليس غريباً أن يستولي (نبوخذ نصر) على القدس، ويدمرها، ويحرق مبانيها، ويفتك بسكانها، ويسبي يهودها إلى بابل، ويزيل هيكلهم الذي يتعبدون فيه، ثم يترك جداراً من الهيكل من دون إزالة هو “حائط المبكى” (البراق) الذي يزعم اليهود أنه الجزء المتبقي من الهيكل؟
شيء آخر، إذا كان السيد المسيح، عليه السلام، قد خرج على الناموس اليهودي، كما تقول الروايات اليهودية التي تصفه وتصف والدته بأبشع الصفات، وجرى تقديمه للمحاكمة على هذا الأساس، فكيف يجري دفنه في أقدس مكان لدى اليهود، في ساحة هيكلهم، إذ إن المعروف أن كنيسة القيامة التي يزعمون أن المسيح عليه السلام دفن فيها تبعد مسافة قصيرة عن حائط البراق؟ أليس الأقرب إلى العقل والمنطق أن نقول إن نبوخذ نصر دمر الهيكل كله، وإنه لم يكن قائماً في المكان الذي يزعم اليهود إنه كان قائماً فيه، مكان المسجد الأقصى؟
ومن المثير للانتباه ألا نجد ذكراً لمدينة القدس (التي يتمسك بها اليهود أكثر من تمسكهم بدينهم نفسه)، في الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم، المسماة التوراة، وحتى وفاة رسول الله سليمان لم تكن هذه المدينة تتمتع بأية قداسة لدى اليهود، فهي لم تكن تعني شيئاً (من وجهة النظر التوراتية) لسيدنا إبراهيم، ولم يذكرها ابنه اسحق على الإطلاق، ولا حفيده يعقوب، ولا الأسباط، ولم يذكرها كذلك سيدنا موسى عليه السلام. بل إن أسفار أنبياء بني إسرائيل تحتوي على مقاطع فيها حديث طويل عن انحرافات أورشليم وضلالاتها، بما لا يؤهلها للتقديس، وفجأة، ومن دون سابق إنذار، نأخذ علماً في سفر الملوك أن “الرب اختار أورشليم”، في عبارة تبدو كأنها حشرت حشراً في النص، ومن دون تبرير لأسباب هذا الاختيار.
وليس العقل والمنطق هما، فقط، اللذان يرفضان مزاعم اليهود حول أهمية القدس، بالنسبة لليهود، إذ إن الحفريات الأثرية التي أجريت في المدينة، منذ بعثة تشارلز وارن عام 1868 حتى الآن لم تتمكن من ربط تاريخ هذه المدينة وآثارها بما جاء في التوراة عنها، ومنذ سقوطها بيد “إسرائيل” عام 1967 والحفريات تجري على قدم وساق في مناطق متعددة للبحث ولو عن دليل واحد يبرر ربط القدس بأحداث التوراة من دون جدوى، رغم أن أعمال التنقيب كشفت أن كل الشعوب والأمم التي كانت لها صلة بهذه المدينة تركت أثاراً تشهد على هذه الصلة.
وربما كان ه. ج. ويلز على حق عندما كتب يقول: “إن حياة العبرانيين في فلسطين تشبه حياة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم، فتدوسه الأقدام والحافلات والشاحنات باستمرار، ومملكتهم لم تكن سوى حادث طارئ في تاريخ مصر وسوريا وآشور وفينيقية، ذلك التاريخ الذي هو أكبر وأعظم من تاريخهم”. وأن المؤرخ البريطاني كان يستشرف المستقبل عندما قال لموشيه دايان في مناظرته الشهيرة معه “إن الحتمية التاريخية تقول إن “إسرائيل” ستزول”.
ولكن الحتمية التاريخية، كما يقول( توينبي )نفسه، بحاجة لمن يحدثها، ولذلك رد عليه موشيه دايان قائلا: لقد انتظرنا 200 سنة حتى امتلكنا القدس، فلينتظر العرب هذه المدة ليخرجونا منها.