الـــصـــراع الـــتـــاريـــخـــي بـــيـــن حـــمـــص وحــمـــاه ...

الخلاف الحمصي الحموي خلاف عريق و مشهور في طرافته
و لم تبق منه اليوم سوى النكات الرائعة التي يتبادلها سكان هاتين المدينتين
وقد كتب الاستاذ سعيد التلاوي هذا المقال والذي نُشر بمجلة المصور المصرية عام 1954
ويتحدث فيه الكاتب عن الجذور التاريخية لهذا الخلاف
كما انه اورد في ثنايا المقال بعض النكت والطرائف بين هاتين المدينتين الرائعتين حمص وحماة .

اليكم نص المقال :

يقولون إن الخلاف بين حمص و حماة يرجع إلى عهد الفتح الإسلامي
و نزوح القبائل العربية في الجزيرة إلى بلاد الشام و استيطانها في هذه البلاد الجميلة الساحرة .
و ساعدت الطبيعة أيما مساعدة الحمصيين و الحمويين على إنماء الخلاف فأقامت بينهم نهر العاصي
الذي سمي بهذا الاسم لعصيانه القواعد الطبيعية في سير الأنهار من الشمال إلى الجنوب و سيره من الجنوب إلى الشمال
فهو ينبع في أراضي لبنان و يتجه شمالاً إلى حمص و يجتازها إلى حماة
و منها يتابع سيره حتى يصب في البحر الأبيض المتوسط .

يعد نهر العاصي عاملا مهما في عوامل الخلاف بين الحمصيين و الحمويين
وهنا يدخل دور الطرف و التنكيت و القصص …
يقول الحمويون أن بعض العقلاء تدخلوا ذات مرة لحل الخلاف على الماء
و جاء وفد من الحمويين إلى حمص و اجتمعوا مع وفد الحمصيين لهذه الغاية
و درس موضوع الخلاف في جميع الوجوه
فاهتدوا إلى خير وسيلة للحل وهي أن تقسم بحيرة قطينة بحبل !!
و يأخذ كل فريق ما يخصه من الماء دون زيادة أو نقصان
و لكن الحمصيين تغلبوا على الحمويين
إذ أرسلوا خلسة في إحدى الليالي بعض الشباب ” القبضايات ـ الزغرتاوية ”
و راحوا ينقلون الماء من الطرف الحموي إلى الطرف الحمصي !!

و ليس العاصي كل شيء في موضوع الخلاف

فهناك الجوار القريب إذ لا تبتعد حمص عن حماه أكثر من خمسة و أربعين كيلو مترا
و هنالك العلاقات الاقتصادية و التجارية و السياسية بين البلدين
و هنالك الطريق من حمص إلى حلب للحمصيين و مرورهم بحماه
و الطريق من حماه إلى دمشق للحمويين و مرورهم بحمص
و لا بد من أن تتحرك العواطف القديمة الدفينة
و أن تحدث حوادث الجدال و الأخذ و الرد و المناقشة
و المفاخرة بالكرم و السخاء و المنافرة بالذود عن حمى الوطن .

و جاءت عهود الفتح لتجعل من حماة أيالة لحمص حيناً
و تجعل من حمص أيالة لحماة حينا آخر
و لا يخفى ما في هذا من إيلام للنفوس خصوصاً إذا كان الحاكمون والمحكومون يضمرون الخلاف لبعضهم بعضا من قبل !

ثم جاءت عهود العثمانيين و ارتقى عدد كبير جداً من الحمويين
إلى احتلال المناصب السامية و المراكز العالية في دولة الخلافة العثمانية
و كان أن جعلوا من حمص قضاء تابعاً لحماه في الشؤون الإدارية و المالية و القضائية
وأصبح الحمصي ملزم أن يسافر لقضاء ما يعرض له من أمور في دوائر الحكومة بحماه .

ثم جاءت عهود الفرنسيين فقلبت الآية و جعلت حمص محافظة و حماة محافظة كذلك
و لكن حماة تابعة في الكثير من العلاقات الرسمية لحمص .

و إذ قال الشاعر ” لا بد مما ليس منه بد ”
فلا بد من أن تكون علاقات الطرفين المتحاربين ببعضهما
أوثق مما يخطر في بال إنسان كعلاقات المصاهرة مثلاً
فقد كان الأتراك يعفون ذوي الزوجات الأغراب من الخدمة العسكرية !
و ما أسرع ما يقدم الحمصيون و الحمويون على التزاوج و التصاهر من بعضهم
و يرون هذا أهون شراً من الموت في الأناضول أو اليمن
أو في إحدى المقاطعات التي كانت تابعة للدولة العثمانية كالبوسنة و الهرسك أو بلغاريا أو غير ذلك
و إذا كانت الزوجة الحموية أو الحمصية لا تلقى شيئاً من العذاب
لما ينطوي عليه الرجلان الحموي و الحمصي من خلق عال و روح طيبة
وببعض الأحيان كانوا الأولاد يعيرون فرضاَ فلا ضرر ” يا حيف عليك ، يا حيف ، خالك حمصي … أو خالك حموي !!!!

و قد خففت هذه المصاهرة من حدة الخلاف المزمن بين حمص و حماه شيئاً فشيئاً
حتى انتهت بمرور الزمن, ثم تطورت العلاقات فأصبحت العلاقة كعلاقة الاخ بأخيه .

وعندما اندلعت نار الثورة السورية الكبرى على الاستعمار الفرنسي عام 1925 في حماه
و أشعل الفرنسيون النار في هذه المدينة المجاهدة
جاءت جماهير الحمصيين لنجدتها و نصرتها
و قد رد الحمويون الجميل للحمصيين في حوادث العدوان الفرنسي عام 1945
و ألحقوا أضراراً بالغة بقوات الاستعمار ووقفوا وقفة الابطال مع الحمصيين .

و هنا أخذوا يتبادلون عواطف الود والولاء بهذه المناسبة بدحر الاستعمار
ويقال أن بعض الشباب من الحمويين المندفعين ومن باب المفاخره جاءوا إلى حمص بعد أن هزموا القوات الاستعمارية
و انتشروا في المقاهي و الملاهي يرسمون إشارة (7) كما كان يفعل تشرتشل إبان الحرب العالمية الأخيرة !!!

و أشهد أن الحمويين من أشجع أبناء الأمة العربية
و يعلل الحمصيون هذه الشجاعة بأن أرواحهم رخيصة لأنهم لا يهابون الموت . !!